الأرشيف اليومي : 05/05/2013

تنابلة السلطان وتنابلة الخرفان (هل عرفتهم؟)

20130507-230014.jpg
نُشرت لفنان الكاريكاتير العبقري أحمد حجازي (١٩٣٦-٢٠١١) في أواسط الستينات مجموعة من القصص المصورة في مجلة سمير عرف أبطالها باسم “تنابلة الصبيان”. ظهرت المجموعة مسلسلة وحظيت وقتها بإقبال واسع ثم طبعت في كتاب نفذ تماما بعد ثلاثة أيام (ولم أعثر علي أي من نسخه رغم تعدد المحاولات ومنها سؤال حجازي نفسه كما ستقرأ لاحقا) ثم عادت مجلة سمير ونشرت بعضا من هذه المجموعة في كتيب رديء الطباعة بعد مرور أكثر من عقدين أو ثلاثة من الزمن (لم أجد تاريخا على الكتيب).

tanablaلا زالت ذاكرتي تحتفظ بشخصيات التنابلة وبحكايتهم مع مصنع البلوبيف المعروفة باسم “تنابلة السلطان وتنابلة الخرفان”. المصنع أنشأه التنابلة وأحاطوه بدعاية غير مسبوقة. خلف أسواره كان العمل يجري على قدم وساق لإزالة غلاف معلبات بلوبيف مشتراة من السوق لوضع غلاف آخر يحمل صورة وماركة التنابلة “الشطار”. أذكر الكثير من تفاصيل القصة وتحتفظ ذاكرتي بصورة اللص النشال عليوة ذي الشاربين العظيمين. استأجره التنابلة ليقف في نهاية كل شهر مع العمال في طابور استلام الأجور ف”ينشل” كلا منهم بعد “قبض” المرتب، لتعود الأموال مرة أخرى لخزينة وجيوب التنابلة الكسالى الجشعين !

افتقد حجازي كثيرا دون أن أدعي أنني كنت من صحبته. فقد كانت أبواب منزله مغلقة لا يفتحها إلا لأقرب أصدقائه ورفاق دربه وليوم واحد فقط في الأسبوع (الأربعاء؟!). ولا زلت اتذكر لقاءين جمعاني وإياه بالصدفة. أحدهما في منزل الراحل العظيم والفنان السياسي الملتزم عقائديا زهدي العدوي (في عام ١٩٨٧ تقريبا) والأخر بعدها بعام في منزل شيخ فناني الكاريكاتير العم رخا رحمهما الله. تطوع حجازي بعد هذا اللقاء الأخير بتوصيلي من منزل رخا في مصر الجديدة إلى معهد جوتة في وسط القاهرة حيث كان معرض الكاريكاتير الوحيد الذي أقمته في مصر. كان حجازي صموتا يشع هدوءا وكنت تشعر أن صمته يخفى قلقا صارخا واكتئابا موجعا لازمه فترة طويلة من حياته وعندما سألته أثناء الرحلة عن “النسر المسحور وتنابلة السلطان ابتسم وصدمني بأنه لا يحتفظ بنسخة واحدة من رسومه المجمعة.
القاعدة الذهبية في الكوميديا هي ألا تضحك (أنت أو شخوصك) عندما تلقي النكتة أو عندما تكون جزءا منها (مع تقديري لكل من سيعترض على القول بأن الكاريكاتير فن نكته). ولكنني لم اتمكن يوما من مقاومة الابتسام وأنا أطالع أشكال شخوصه الضاحكة وابتساماتهم التي تمتد من الأذن للأذن وأياديهم الممتدة في عفوية لتغطي جزءا من الفم أو الابتسامة. أحتفظ في ذاكرتي بعدد من رسومه أتذكرها كلما أحسست برغبة في الابتسام منها كاريكاتير نشره على غلاف جريده الأهالي تصدره اثنان من مسؤلي الدولة (السمان) يتحدثان سويا ويقول أحدها للآخر: لو ما كناش هانسرق بلدنا أمال هانسرق مين؟!
وعندما وقع ناظري على الصفحة المصاحبة لهذه التدوينة من سلسلة “تنابلة السلطان ودودة ورق القطن” احسست أن حجازي ما زال معنا. رسوم القليلة تصور واقعا مزريا حل فيه الكلام عن العمل مصحوبا بقدر لا بأس به من الجعجعة والطنطنة وأردأ فنون التسويق والدعاية، محل العمل الفعلى الذي، لسخرية القدر، ربما يتطلب مجهودا أقل !!

والصفحة المرفقة ورسومها تصور المجهود المحموم الذي قام به التنابلة أمام عدسات المصورين لتخليد عملهم في جمع دودة القطن. صور في كل الأوضاع بينما يقوم الفلاحون والطلبة بالمجهود الفعلي لجمع الأوراق المصابة بآفة القطن. ما لم يعلمه القراء الذين تابعوا وطالعوا الصور هو أن التنابلة لم يبذلوا أي مجهود في مكافحة الدودة وأنهم في غمرة الاهتمام بالدعاية نزعوا أوراق النباتات، التالفة والصحيحة… وما ذنب النباتات… وذنبنا.
نظرت إلى التنابلة في رسوم حجازي افتقدته ثانية ولم أفتقدهم بل أحسست أنني أعرفهم.. واحدا واحدا..
فهل صادفك نفس الشعور؟!