أجلس فى نهاية الفصل. أمسك كراسة الحساب وأفتحها بيدين مرتعشتين. مساحة الصفحات البيضاء تقسمها خطوط زرقاء باهتة إلى مربعات كبيرة. تتراص الأرقام التى كتبتها كبيرة واضحة. تقترب أبلة عنايات، وفجأة تصفعنى على وجهى وتصرخ باستنكار: «حد يكتب الأرقام على السطر؟ الأرقام بتتكتب فى وسط المربع يا حمار». تستدير وتعود إلى مقدمة الفصل. أتساءل فى نفسى: «وكيف لى أن أعرف؟ لم يخبرنى أحد». أخاف أن تسمع أفكارى فأتوقف. تسيل الدموع على خدى فى صمت.
فى المنزل. أجلس أمام كراسة الواجب. أتذكر أبلة عنايات وهى تقول بصوت عال: «حسن خطك انت وهو». أخرج المبراة. أبرى قلمى الرصاص. أشك خدى. أشعر بوخزة وألم خفيفين. أطمئن وأعاود الكتابة بخط دقيق. فى الفصل أفتح كراستى وأضعها على الدرج. تمر فتاتان صبوحتان طلبت منهما المدرسة اختيار كراسات المجيدين لعرضها عليها. تنظر فتاة إلى كراستى. تندهش من دقة الخط. تنادى زميلتها فى انبهار. تبتسم الفتاتان وتحمل إحداهما الكراسة بأناملها الرقيقة. تدخل أبلة عنايات إلى الفصل. تجرى الفتاة نحوها. «أبلة.. أبلة.. بصى الكراسة دى». تقلب المدرسة الصفحات وهى تسأل: «كراسة مين دى؟» ترد الفتاة: «حسام يا أبلة». تمسك المدرسة الكراسة بحسم وتطيح بها بكل قوة فى اتجاهى. تصفع الكراسة وجهى ثم تسقط على الأرض. انحنى لأرفعها. أجلس فى صمت.
«أحب أبلة عنايات» جلست فى المنزل أكتب الجملة. أكرر كتابتها مرة بعد مرة وأنا أقاوم النعاس. جفونى تتراخى رغما عنى. تمر أختى عزة التى تكبرنى بخمس سنوات وتقول: «ده كتير قوى. هتكتبها كام مرة؟».. أجيب: «مئة مرة». تسحب الكراسة من بين يدى وتبدأ فى كتابة الواجب عنى. أروح فى النوم بينما هى تكتب فى همة.
«تعال هنا وهات كراستك».. أخرج متثاقلا بين الدكك. أقف إلى جوارها فى رعب. تمسك الكراسة. تدخل مدرسة أخرى من فصل مجاور. تلمحنى واقفا وتبتسم «أمور قوى الواد ده». أبلة عنايات لا تعقب. تتبادل معها الحديث. تفاجئنى بصفعة على وجهى دون أن تفتح الكراسة. يداهمنى شعور مفاجيء بالذعر. أعجز عن مقاومة الرغبة فى التبول. يسيل. أشعر بحرارة حارقة على ساقى. تنظر المدرسة الزائرة إلى صديقتها فى دهشة «ليه كده؟». أسمع صوتا حاسما وآمرا. «امش ارجع الدكة بتاعتك».
الصباح. ميعاد المدرسة. أرتعش وأتصبب عرقا. تقترب والدتى وتحتضننى فى حنان. تضع يدها على جبهتى. أشعر بخشونة حانية. «مالك يا حبيبى؟» غصة فى حلقى تعجزنى عن الكلام. تكرر سؤالها. «مش عاوز تقول لى؟» تسيل دموعى وتخرج الكلمات من بين شفتى خفيضة. «أبلة عنايات بتضربنى». دموعى تسيل. أخاف أن تسمعنى أبلة عنايات. أخاف أن تعرف أننى بحت. الكبار يعرفون كل شيء.
تمر الدقائق ثقيلة فى الفصل. يطل وجه طفلة من فرجة الباب «أبلة الناظرة عايزة حسام السكرى». ينقبض قلبى وأنا أسمع صراخ أبلة عنايات: «امشى روح للناظرة.. شوف عملت إيه».
خرجت إلى الحوش الرملى الواسع. أظافرى كانت مقصوصة وحذائى كان مدهونا. هل كان هذا كافيا لكى لا يضربنى أحد؟ تساءلت: هل تصفعنى الناظرة؟ وإذا فعلت هل سيكون هذا بشكل مباغت كما كانت تفعل أبلة عنايات؟ ارتجفت وانا أخطو إلى المكتب حيث كانت تنتظرنى مفاجأة.. أمى!
أجلستنى الناظرة فى مواجهتها وبدأت حوارا وديا تطور فجأة: أبلة عنايات عاملة معاك إيه؟ ــ كويسة ــ بتحبها؟ ــ آه ــ أبلة عنايات بتضربك؟.. صمت.. ذعر.. كشف السر. تماسكت وأجبت ــ لأ ــ بس ماما بتقول إن أبلة عنايات بتضربك ــ لأ ما بتضربنيش. أمى تتدخل: إنت قلت إنها بتضربك ــ لأ ما قلتش.
تجاهلت الحيرة التى علت وجهها وخرجت عائدا لفصلى.
فى المنزل استقبلتنى أمى على الباب متسائلة: كذبت علىَّ؟ ــ لم أكذب ــ أبلة عنايات بتضربك واللا لأ؟ ــ بتضربنى ــ ما قلتش كده ليه قدام الناظرة؟
غمرنى الخوف. لم أنطق. أخذتنى فى حضنها. قلت بصوت مختنق: «بعد ما اقول للناظرة كنتى هتسيبينى معاهم وتروحى».. بكيت.. كيف كان لأمى أن تفعل هذا بى؟!
فى اليوم التالى، مضت الحصة الأولى بسلام وبدا أن أبلة عنايات تتجاهلنى. دخل رسول إلى الفصل ينادى: حسام السكرى يروح لأبلة الناظرة وياخد حاجته معاه. جمعت أدواتى وحقيبتى وذهبت لأجد والدى فى حلته العسكرية. ناولته المديرة ملفا أزرق. نظر فى محتوياته ثم أخذه فى صمت. مد يده إلىَّ فضاعت راحتى فى قبضته. خطونا خارج المكتب. ألقيت نظرة على الشجرة ذات الأزهار الحمراء. جلس أبى إلى جوار سائق سيارته وأنا إلى جواره. عدنا إلى المنزل ثم انطلق هو إلى عمله.
كنت سعيدا. عرفت أننى لن أشاهد أبلة عنايات مرة أخرى طوال حياتى. لن أكتب «أحب أبلة عنايات» مئة مرة. لن تفاجئنى بصفعاتها المفاجئة.
فى المساء أخذت مخدتى الصغيرة. دخلت غرفة نوم والدىَّ. تسلقت الصندوق الحديد المجاور لسريرهما، ثم تسللت بينهما. كان أبى نائما على جنبه. وضعت مخدتى على المخدة العريضة التى كان ينام عليها. استلقيت بجواره ووضعت كفى الصغيرة على صدغه. كنت دائما استمتع بلمسة ذقنه الخشنة. ورحت فى النوم.
فى الصباح أخذتنى أمى إلى مدرسة فاطمة النبوية الابتدائية المشتركة التى تتردد عليها أختاى الأكبر منى هالة وعزة.
أذكر الحيرة واليأس الآن علا وجه أمى. كانت أبلة إحسان تقول لها: ما كانش لازم تخرجيه من هناك. احنا معندناش مكان. أنا عارفة إن اخواته هنا، بس احنا ما بناخدش ولاد خلاص. هنقلبها بنات بس. جربى فى مدرسة عثمان بن عفان اللى قصادنا.
أسقط فى يد أمى. تأهبت لمغادرة المكتب. نظرت إلى ناظرة المدرسة فى يأس ثم ندت عن شفتيها عبارة مترددة. قالتها بشكل عفوى ولكنها كانت كافية لتغيير الموازين وتحويل مجرى حياتى..
«بس ده بيعرف يقرا» .. قالتها بصوت خفيض. صمتت الناظرة لوهلة ثم استوقفتها: يعنى إيه بيعرف يقرا؟ ده لسه داخل سنة أولى! أدركت أمى أنها لمست وترا ما دون أن تدرى. «والله بيعرف يقرا ومش زى العيال الصغيرة. اخواته كانوا بيقروا له كتير وهو اتعلم لوحده».
رمقتنى المديرة بنظرة شك وطلبت منى أن أقرأ لافتة من بين ستة لافتات عليها قطوف من الحكم والأقوال المأثورة، كانت تزين جدران مكتبها. قرأت إحداها بطلاقة، فاختارت الناظرة لافتة أخرى، ثم أخرى. كلما قرأت واحدة كانت نظرتها تتغير. فى غضون دقائق كان الشك والريبة قد اختفيا تماما وحلت محلهما نظرة إعجاب. نسيت المديرة وجود أمى تماما. نهضت فجأة من خلف مكتبها وانتزعتنى من الكرسى. خرجنا إلى الردهة المفضية إلى حجرتها، ثم إلى الممر المكشوف الذى تراصت على جانبه فصول الصف الأول. كانت تجرى، وأنا أحاول مجاراة سرعتها، وأمى تحاول اللحاق بنا.
ارتفع صوتها: أبله سعاد.. يا أبله سعاد. خرجت أبلة سعاد من فصل أولى تانى فى نهاية الممر. شعرها أسود قصير، أكمامها مشمرة وفى إصبعها قطعة من الطباشير المربع الذى كانت تفضله على «طباشير الحكومة». ارتفع حاجباها دهشة. قالت لها الناظرة: الولد ده بيعرف يقرا أحسن من بتوع سنة سادسة! ثم انتبهت إلى أمى التى كانت قد أدركتها للتو. نظرت لها باسمة: هندخله فصل ولاد الأبلوات. أبله سعاد هلال أحسن مدرسة عندنا. التفتت إلى الناظرة وقالت: ادخل فصلك عند أبله سعاد يا حسام.
خطوت إلى الداخل فى وجل. لست معتادا على الاحتفاء. أكثر من مئة عين تحدق فى. خطوت بين الصفوف متجها إلى دكة فى آخر الفصل. نادتنى أبله سعاد: حسام.. تعال. تجمد الدم فى عروقى. عدت أدراجى واقتربت منها فى وجل. هل ارتكبت خطأ ما؟ تحركت يدها اليمنى. تسمرت عيناى على راحتها. ترى هل تصفعنى؟ استقرت يدها على شعرى فى حنو، ثم احتضنت وجهى بكفيها وقالت: أنا عاوزاك تقعد قدامى.. جنب ولاء.
التفت خلفى فوجدت طفلا يجلس وحيدا على درج فى مقدمة الفصل. اتسعت ابتسامته وبدا عليه زهو واضح وأنا أخطو لأجلس بجواره.
جلست مترددا بجواره. أخرج ولاء يده من جيب مريلته البنية، ودس شيئا ما فى يدى. فتحت كفى فوجدت قطعة عملة صغيرة حمراء متعرجة الحواف. خمسة مليمات سودانية، ومعها قطعة من البلاستك الأسود بدت لى وكأنها درع منيع لفارس شديد الصغر. بنبرة توحى بالأهمية قال ولاء: «ممكن اديهملك هدية؟ بابا جابهملى من السودان». ثم أضاف بعد لحظة صمت: الله يرحمه. احتضنت كفه الصغيرة يدى وضغط عليها قائلا: هاتبقى صاحبى مش كده؟ ابتسمت وهززت رأسى مؤمنا، وضغطت على يده. فى فصل أبله عنايات لم يكن لدى أصدقاء.
bit.ly/shsok